صلاح رشاد .. يكتب: هروب الفضل بن الربيع
أدرك الفضل الربيع مهندس الخراب ورأس الرمح في الوقيعة بين أبناء الرشيد أن دولة الأمين تلفظ أنفاسها الأخيرة وأن دولة المأمون تكسب كل يوم أرضا جديدة، فوجد أن الهروب هو الحل لينجو من قبضة طاهر ورجاله، فجرمه شنيع وسيئاته كالجبال، لأنه أول من زين للأمين السير في طريق نكث العهود والغدر بأخيه المأمون، ورغم دهائه الشديد ومكره وخبثه إلا أن الأحداث أثبتت أنه كان ينظر تحت قدميه.
كان الشغل الشاغل للفضل بن الربيع أن يظل في الحجابة والوزارة، وأن يكون من أهم صناع القرار داخل البيت العباسي، مهما كانت التضحيات، قطع الأرحام لا يهم، خراب البلدان لا يعنيه في شيء، هدم البيوت وتشريد آلاف الأسر لا يؤرقه، سفك الدماء وإزهاق أرواح الآلاف لا يقض مضجعه ولا يزلزل فؤاده، وكأن قلبه كان حجرا بل أشد قسوة من الحجارة.
قد يقول قائل إن الأمين كان عازما علي الغدر بالمأمون سواء وجد حاشية تزين له هذا الأمر أم لم يجد.
وقد يكون هذا القول فيه بعض الصحة، لأن معظم ملوك بني أمية وبني العباس كانوا يفضلون دائما أبناءهم علي إخوانهم وأبناء إخوانهم وكان بعضهم يسعي للغدر بولي العهد إذا لم يكن ابنه، ويضغط عليه من أجل أن يخلع نفسه طائعا أو مكرها .. فعلها الوليد بن عبد الملك مع أخيه سليمان لكن عاجله الموت، وفعلها هشام بن عبد الملك مع ابن أخيه الوليد بن يزيد، لكن الوليد لم يستسلم لضغط عمه وهرب الي قصره في الصحراء، وقد سردنا كل هذه التفاصيل في حينها، لكن الموقف هذه المرة كان مختلفا تماما لأن خلع المأمون لم يكن ليمر إلا علي جثث وأنقاض وخراب ودمار ودماء وأشلاء.
وكان واجب الفضل بن الربيع لو كان يخشي الله، ويخشي الوقوف بين يدي الله، ويخشي لحظة الحساب أمام الله، أن ينصح الأمين بالرجوع عن هذه الخطوة الكارثية لإبراء ذمته أمام الله قبل كل شيء، وليبرئ ساحته من كل المصائب والويلات والشرور التي ستقع، فقد كان العامة والخاصة علي حد سواء يدركون أن كارثة كبري ستقع إذا صمم الأمين علي خلع أخيه المأمون بالضغط والإكراه، لأن المأمون كان يمتلك من البداية بعض القوة التي تجعله قادرا علي الصمود والمناورة لأنه كان مختلفا عن كل ولاة العهود في تاريخ الإسلام كما قلنا قبل ذلك، فقد كان يمتلك قوة حقيقية علي الأرض وفرها له أبوه الرشيد قبل موته عندما منحه ولاية خراسان وما حولها حتي حدود الصين ووثقها في عقود البيعة التي شرطت أيضا ضرورة وفاء كل أخ لأخيه.
كل ذلك لم يكن غائبا عن عامة الناس فما بالنا برجل يتفجر دهاء وخبثا ومكرا.
لو نصح الفضل بن الربيع الأمين بعدم السير في هذا الطريق الشائك وصمم عليه الأمين بعد ذلك، لقلنا إن الرجل معذور وفعل ما يمليه عليه الضمير، وحق العهود والمواثيق المبرمة في عهد الرشيد، وحق الدولة المترامية الأطراف التي كان الفضل وقتها أحد أهم أركانها.
لكنه لم يفعل بل كان من أهم المشيرين علي محمد الأمين بهذه الخطوة الكارثية.
قد يقول قائل إن الأمين في تلك اللحظة الفارقة في حياته وحياة دولته، لم يفقد النصحاء والحكماء فهناك من أشار عليه بعدم الإقدام علي هذه الخطوة، لكن رفض نصائحهم.
وهذه مقولة صحيحة لكن يبقي أن هؤلاء الحكماء والنصحاء لم يكونوا في نفس منزلة الفضل بن الربيع، وقدرته الكبيرة علي التأثير علي الأمين الذي كان يعتبر الفضل شيخ الدولة وعماد أهل بيته، يعني رفعه إلي منزلة الوالد المرهوب الجانب المسموع الكلمة.
لكن الفضل كان قد عكر صفو العلاقة بينه وبين المأمون مبكرا جدا وضرب بوصية الرشيد عرض الحائط، وقرر منذ تلك اللحظة أن يستخدم كل وسائله الشيطانية للحيلولة دون وصول عبد الله المأمون لمنصب الخلافة.
فكانت مصلحته الشخصية فوق كل المصالح، وأي شخصية من هذا النوع عندما تتوفر لها أسباب القوة والسلطة ترتكب الأهوال في سبيل أن تظل قابضة علي السلطة، مهما كان حجم الكوارث والضحايا.
هرب الفضل بن الربيع وكان وقتها علي مشارف الستين من عمره، بعد أكثر من ثلاثين عاما قضاها في البلاط العباسي نجما ورمزا ومصدر خطورة لمن لا يعرف قدره أو من يتجاهل قدره.
ودور الفضل في نكبة البرامكة ليس بخاف ولا منسي فقد أشارت إليه كتب التاريخ.
هرب الفضل وأصبح من عامة الناس .. تلك اللحظة الأليمة التي لم يعمل حسابها أبدا بل كاد أن يضحي بدولة بني العباس نفسها من أجل ألا يري هذه اللحظة ولسان حاله يقول : (أنا الفضل بن الربيع، أبي كان حاجب المنصور والمهدي وأطاح بكل من كان يهدد مكانته في عهدي المنصور وابنه المهدي، وكنت أنا حاجب الرشيد وبعد أن عملت مع غيري في الإطاحة بدولة البرامكة أصبحت الحاجب الوزير، وبعد الرشيد أصبح ابنه الأمين طوع أمري يتحدث بلساني ويفكر بعقلي حتي صرت أقوي رجل في دولة بني العباس) .. أما الآن فقد أصبح ذلك الثعلب الماكر الخبيث من عامة الناس، مجرد رجل مطارد يبحث له عن مأوي في مكان بعيد علي أمل أن يصفح عنه المأمون عندما ينزل بغداد.
واذا كان الفضل بن الربيع لم يدفع ما يستحق من أثمان باهظه علي ما اقترفته يداه في الدنيا، فأمام ملك الملوك الذي لا يظلم عنده أحد سيدفع الثمن كاملا إن شاء الله.
ولسان حال من ظلمهم وتسبب في قتلهم وتشريدهم وخراب بلدانهم يقول مع الشاعر الكبير أبي العتاهية:
أما والله إن الظلم شؤم
وما زال المسيئ هو الظلوم
إلي ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
ونكمل في الحلقة المقبلة إن شاء الله